تخطط وزارة الزراعة الأمريكية، وفق تقرير صدر في نهاية فبراير 2017، إلى زيادة صادراتها من فول الصويا إلى تونس “لتلبية الطلب المتزايد منه في قطاع الصناعة”، وهو منتج في غالبيته العظمى معدل وراثيا. ونظرا لافتقاد تونس في الوقت الحالي لأي تشريع وطني بشأن الكائنات المعدلة وراثيا، فمن المتوقع أن تزداد واردات هذا المحصول حتى أفق عام 2025.
وفي خضم النقاش الحاصل حول الهندسة الجينية لا يعلم التونسيون الكثير حولها، فقد كشفت دراسة شملت عينة من 2000 شخص من بينهم 16 شركة صناعية و94 فلاحا و100 شخصية فاعلة في عدة قطاعات و18 جمعية، وعرضت نتائجها خلال أيام التنوع البيولوجي سنة 2015 أن 89 بالمائة من التونسيين لا يمتلكون معارف حول الكائنات المعدلة جينيا.
ولا تبدو المعلومات حول الكائنات المحورة جينيا في تونس واضحة أو دقيقة وإلى حين المصادقة على مشروع قانون يتعلق بالسلامة الإحيائية، فإن هذا القطاع يشهد إلى حد الآن فراغا قانونيا يفسر حالة الضبابية التي تلف المعلومات حوله. فنحن لا نعرف حتى هل أن المنتجات التي تحتوي، أو مستخلصة، من الكائنات المحورة جينيا عرفت طريقها إلى بلادنا وهل دخلت إلى أسواقنا أو تسللت إلى حقولنا بعد؟
قد لا يمكن الحسم في هذا التساؤل، لكن إمكانية حصول ذلك واردة جدا. فبالنظر إلى تبعية بلادنا إلى الخارج، فإن تونس تستورد النسبة الأكبر من البذور، على غرار بذور الخضار التي تستورد 95 بالمائة منها. وأغلب هذه البذور مصدرها شركة مونسانتو العالمية التي تشتغل في تونس، والتي تسوق حسب ما ثبت المنتجات التي تحتوي على الكائنات المحورة وراثيا، ما يعني أنه من المحتمل إن لم يكن من المؤكد أن هذه المنتجات قد دخلت بلادنا خاصة وأن ممارسات المافيا التي كانت سائدة في قطاع الاستيراد قبل عام 2011 لم تسمح بأي معلومات حول هذا الموضوع.
ولا تزال مسألة السلامة الإحيائية في تونس تشكو من فراغ قانوني، فمشروع القانون الوطني الأول من نوعه والوحيد المتعلق بالسلامة الإحيائية والذي شرع في إعداده منذ سنة 2005 لم ير النور بعد ولم تتم إلى غاية اليوم إحالته على مجلس نواب الشعب التونسي للمصادقة عليه. وتبرز أهمية مشروع هذا القانون في توفير إطار وطني فعال للتعامل مع القضايا والالتزامات الدولية للسلامة الإحيائية، المتمثلة أساسا في بروتوكول قرطاجنة التابع لاتفاقية التنوع البيولوجي، وهو اتفاق دولي، كانت قد صادقت عليه تونس عام 2002، يهدف إلى حماية التنوع البيولوجي من المخاطر المحتملة التي تشكلها الكائنات الحية المعدلة وراثيا الناتجة عن التكنولوجيا الحيوية الحديثة.
وتقر وزارة البيئة بوجود فراغ قانوني في مجال نظام السلامة الإحيائية وتعترف بغياب التنظيم وهيكلة الخدمات المختلفة التي يمكن أن تساهم في التحكم في سلسلة الكائنات المحورة جينيا.
ويشير تقرير لدائرة المحاسبات حول منظومة البذور والشتلات، كان قد صدر في منتصف الشهر الثاني من سنة 2016، إلى الفراغ الحاصل على مستوى الإطار التشريعي والقانوني، حيث لاحظ غياب هذا الإطار القانوني لإنتاج البذور والشتلات المحورة جينيا والتي يتطلب استغلالها الأخذ بعين الاعتبار جملة من المحاذير بهدف اجتناب المخاطر المحتملة على المستوى الصحي والبيئي. كما لاحظ أيضا غياب إطار تشريعي خاص بالبذور والشتلات البيولوجية.
ماهي الكائنات الحية المعدلة وراثيا / المحورة جينيا، وما هي استعمالاتها ؟
يعرف نك فاندرغراف، رئيس دائرة وقاية المزروعات في منظمة الأغذية والزراعة وسكرتير الاتفاقية الدولية لوقاية المزروعات، الكائنات الحية المعدلة وراثيا بأنها “كائنات حية فيها تركيبة جديدة من المواد الوراثية التي تم الحصول عليها جراء استخدام الهندسة الوراثية، فهي إذن عبارة عن مجموعة فرعية انبثقت عن الكائنات المعدلة وراثيا.
وتستعمل تقنيات التكنولوجيا الحيوية في مجالات عديدة كالصيدلة والطب، إلا أن ما أثار الجدل في العالم فعلا هو استخدامها في الأغذية والزراعة. فالبذور المحورة وراثيا وشتلات النباتات والأنسجة المزروعة هي بمثابة أجزاء حية من النباتات، ولذلك تُعرف باسم الكائنات الحية المعدلة وراثيا.
إذ بالنسبة للزراعة، استهدفت المحاصيل المحورة جينيا أولا فول الصويا والذرة والقطن وبذور اللفت ثم انتشرت في جميع الخضروات والفاكهة. وقد تم تسجيل ما يقرب من 300 حالة من الإفراج المتعمد للكائنات المعدلة وراثيا في البيئة في الاتحاد الأوروبي، بين عامي 1991 و1994.
وقد بدأ بيع الأغذية المعدلة وراثيا في الأسواق عام 1994 عندما قام مونسانتو بتسويق نوع من الطماطم المتأخر النضج. كما تركز أغلب التعديلات الوراثية خاصة على المحاصيل ذات الطلب العالي من المزارعين مثل فول الصويا، والذرة، وزيت بذور القطن.
ينقسم الباحثون والعلماء إلى مؤيد ومعارض للمنتجات المعدلة جينيا. فهي وإن أثبتت عدة فوائد أبرزها حسب المؤيدين زيادة الإنتاجية والقضاء على الجوع، فقد برزت مخاوف بشأن انعكاساتها على البيئة وإلحاقها الضرر بالتنوع البيولوجي.
مونسانتو والخطر الداهم
قد لا يبالغ الباحث الأميركي وليام انغداهل حين شبه البذور المعدلة وراثيا بأسلحة الدمار الشامل واعتبرها نوعا من الأسلحة البيولوجية التي تستخدمها الولايات المتحدة الأميركية ضمن خططها الجيوسياسية للسيطرة على موارد الطاقة في العالم. فشركة مونسانتو الأمريكية والتي تحتكر نحو 70 بالمائة من صناعة الحبوب تسيطر على سوق البذور العالمية وبالتالي في الإنتاج الزراعي للبلدان التي تتعامل معها.
هذه الشركة وهي واحدة من الشركات المتعددة الجنسيات التي تعمل في مجال التكنولوجيا الحيوية الزراعية، إذ أنها أكبر منتج للبذور،العادية والمعدلة جينيا، يطلق عليها الناشطون للمنتجات الزراعية المعدلة وراثيا لقب “الشيطان”.
ففي أكتوبر من عام 2016 بدأ ناشطون محاكمة شعبية وفقا لصحيفة “ديلي ميل” لشركة مونسانتو، متهمين شركة البذور الأمريكية العملاقة بانتهاك حقوق الإنسان، وارتكاب جريمة “إبادة بيئية”. إلا أنها استطاعت الحصول على حماية قانونية من الكونجرس الأمريكي يسمح لها، وللشركات المماثلة، بزراعة منتجاتها وبيعها حتى وإن كانت تواجه قضايا قانونية تتعلق بأضرار هذه المنتجات صحيا وبيئيا.
وقد ثارت ضدها احتجاجات في ماي 2013 في أكثر من خمسين بلدا في أنحاء متفرّقة من العالم احتجاجا على منتجاتها من الكيماويات والبذور الزراعية المعدلة وراثيا، لاعتقادهم بأنها تضر بصحة الإنسان والبيئة. لاقت الدعوات إلى الاحتجاج استجابة في مصر أيضا، التي تستورد منها الذرة. كما رفضت الكويت شحنة من هذا المنتج للاشتباه لاحتوائه على الكائنات المعدلة وراثيا. وفي البيرو التي تقع في أمريكا اللاتينية تم منع استيراد كافة المحاصيل المعدلة وراثيا لمدة عقد كامل حتى تتضح أضرارها على السلامة، كما قامت المجر بحرق ألف فدان من المحاصيل التي ثبت أنها ملوثة بالحبوب المعدلة وراثيا الخاصة بمونساتو.
وقد انخرطت في انتقادها منظمات بيئية مثل منظمة السلام الأخضر (غرينبيس) وبحسب ما صرحت به المنظمة أن المعلومات الحالية عن الكائنات المعدلة وراثيا هي فقط معلومات سطحية وما خفي كان أعظم. لا يمكن لأحد في الوقت الراهن أن يقدر حجم التأثيرات الناتجة تجاه الطبيعة والحيوانات على المدى الطويل، حيث يمكنها أن تؤدي إلى حدوث طفرات جينية ومن الممكن أن يكون لها آثار جسيمة على التنوع البيولوجي. وسيظل تنوع النباتات والحيوانات رهين بعض الشركات الكبيرة التي تنتج وتوزع المحاصيل المعدلة وراثيا.
الزراعة البيولوجية أو العضوية والمستدامة … جزء من الحل رغم محدوديتها
يعرف البعض الزراعة البيولوجية باسم الزراعة العضوية أيضا، فالمصطلحين يمكن أن يؤديا إلى المعنى نفسه، حيث إن الأخير يشير إلى نظام زراعي خال من الأسمدة الكيمائية والمواد الضارة بالصحة العامة، بالإضافة إلى عدم وجود أي استخدام للسلالات المعدلة وراثيا.
وتثمن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة الفوائد البيئية من الزراعة العضوية وتعتبرها بمثابة نظام يعتمد على إدارة النظام الايكولوجي بدلا من المدخلات الزراعية الخارجية. كما تعتبر المنظمة أن التنوع البيولوجي عنصرا أساسيا وضروريا للأمن الغذائي والتغذية، حيث تشكل الآلاف من الأنواع المترابطة فيما بينها شبكة حيوية من التنوع البيولوجي داخل النظم الإيكولوجية التي يعتمد عليها إنتاج العالم من الأغذية.
وعليه فإنه لا شك بأن الزراعة تعتبر من أكثر الأنشطة الإنسانية المعتمدة على البيئة، ومن هنا فإن استدامة الزراعة هو أمر ضروري بالنظر إلى علاقته المباشرة بحماية البيئة والحفاظ على توازنها. ولعل هذا ما تسعى بعض الجمعيات في تونس إلى نشر الوعي حوله. إذ يؤكد عضو بالجمعية التونسية للزراعة المستدامة عبد الحميد عمامي “أنه لا يمكن بناء نظم بيئية مستدامة بالاعتماد على البذور الهجينة أو المعدلة وراثيا .
ويؤكد قائلا “إن البحث عن بذورنا المحلية الأصيلة بذور الآباء والأجداد في مواجهة طوفان البذور المعدلة وراثيا والمهجنة هي أولوية”. وقد أطلقت الجمعية” قافلة البذور”للبحث عن هاته البذور في ربوع البلاد بغية المحافظة عليها ومحاولة إكثارها، فحسب رأيه “إن المحافظة على هاته البذور هي قضية على قدر كبير من الأهمية بالنسبة للفلاحين وللتنوع البيولوجي وللصحة وسلامة أرضنا، خاصة بالنظر إلى خطر التغيرات المناخية الكبيرة القادمة التي تهدد بلادنا”.
هذا ما تفطن إليه كذلك أنور البوبكري، وهو صاحب مجمع فلاحي عائلي أطلق عليه إسم “الصحراء الخضراء” من منطقة منزل الحبيب من ولاية قابس بالجنوب الشرقي التونسي، كان قد تم تكريم مشروعه خلال حضوره محادثات الأمم المتحدة حول المناخ في مراكش بالمغرب سنة 2016، حيث بين أن حرصه على استعمال البذور والشتلات المحلية الأصيلة يعود إلى وعيه بقدرتها على تحمل آثار التغيرات المناخية والتأقلم معها.
ويضيف قوله بأن “استعمال البذور الأصلية هي أسلم لي ولحقلي ولا أثق في البذور المستوردة مهما كان مأتاها” وفي سؤاله من أين يحصل على البذور الأصلية التي يستعملها، قال “إن عائلته تتوارثها جيلا بعد جيل من خلال محافظتهم على عادة تميز الفلاحين هناك وهي أن يأكل الفلاح ثلث محصوله ويبيع ثلثه، ويعيد استثمار الثلث الأخير في أرضه”.
ورغم أهميتها لا تبدو الاجتهادات الفردية أو مجهودات المجتمع المدني كافية، ويبقى للدولة الدور الأبرز في إيجاد الحلول اللازمة وفي مقدمتها ضبط الإطار القانوني الذي يسهم في الحفاظ على البيئة واستدامة سلامتها.
قانون السلامة الإحيائية في تونس، الحل الذي لم يكتمل بعد
يستخدم مصطلح السلامة الإحيائية لوصف تلك الجهود التي تهدف لتقليل وإزالة الأخطار المحتملة والناتجة عن التكنولوجيا الحيوية ومنتجاتها، المتمثلة خاصة في الكائنات المعدلة وراثيا. إلا أنه وفي مشروع القانون المتعلق بالسلامة الإحيائية في تونس، تشير هزار بلي، رئيسة مصلحة بإدارة الإدارة العامة للبيئة وجودة الحياة بوزارة البيئة والشؤون المحلية، إلى أنه تمت إضافة الأنواع الغازية الدخيلة والأنواع المرضية إلى جانب الكائنات المحورة جينيا حتى يكون القانون أشمل ويعنى بالعناصر التي تحمل مخاطر على صحة الإنسان وصحة البيئة.
وفي مسودة مشروع القانون التي نشرت على بوابة غرفة تبادل المعلومات حول السلامة الإحيائية، تم تعريف الكائن المرضي بأنه “كل كائن أو أيضه أو نفاياته قادر على أن يسبب المرض للإنسان أو الحيوان أو النبات”.
كما يعرف الأصناف الدخيلة الغازية بوصفها “تلك الأنواع الدخيلة التي تهدد النظام الايكولوجي ومواطن الأنواع الأصلية وتسبب آثارا اقتصادية وإيكولوجية و/أو صحية سلبية”.
هذا وتعرف أطر السلامة الإحيائية الوطنية بأنها نظام يشتمل على آليات قانونية وفنية وإدارية يتم وضعها للتأكد من السلامة في الأبحاث والتطوير واستخدام واستيراد أو تسويق الكائنات المعدلة وراثيا. ولذلك يبين حاتم بن بلقاسم، رئيس مصلحة بإدارة الإدارة العامة للبيئة وجودة الحياة بوزارة البيئة والشؤون المحلية، أن الإطار القانوني ضروري حتى تشتغل باقي المنظومة مبرزا ضرورة توفر الإجراءات المصاحبة لضمان تطبيق القانون وهي عبارة عن تهيئة أرضية اشتغاله المتمثلة أساسا في التأكد من توفر القدرات التقنية والبشرية.
وبخصوص المرحلة التي وصل إليها إعداد مشروع هذا القانون، يفيد حاتم بن بلقاسم أن المشروع قد خرج من الإطار الفني على مستوى وزارة البيئة والآن بصدد طرح استشارة حوله لجمع الآراء من قبل الوزارات الأخرى ذات العلاقة، حتى يتم فيما بعد إحالته إلى مجلس نواب الشعب للمصادقة عليه.
وفي حالة إرساله إلى المجلس، فلا أحد يملك فكرة كم من الوقت سيستغرق البت فيه والمصادقة عليه، فذلك يعتمد على ترتيبه على سلم أولويات البرلمان التونسي خاصة أن الملف البيئي ككل لا يشكل أولوية لدى النخبة السياسية في تونس وفي البرامج الانتخابية للأحزاب السياسية عند تنافسها في الانتخابات البرلمانية وحتى الرئاسية، فلئن اتفقت على العموميات كضرورة الحفاظ على محيط صحي ونظيف، فهي تقريبا لا تغوص كفاية في تفاصيل تنفيذ برامجها البيئية والتي تتمحور غالبا حول المواضيع التي لها علاقة بإشكاليات التلوث والنفايات. أما فيما يخص السلامة الإحيائية، فلا نلاحظ نقاشا عاما بالقدر الكافي حوله رغم أن الموضوع ليس جديدا. فقد بين حاتم بن بلقاسم أن فكرة السلامة الإحيائية في تونس تعود إلى سنة 1993 الذي يمثل تاريخ مصادقة تونس على اتفاقية التنوع البيولوجي.
وتجدر الإشارة إلى أنه في ظل غياب الإطار القانوني فلا يوجد تقارير عن تقييم المخاطر أو ما شابه، كما لا تتوفر قاعدة بيانات مفتوحة تحتوي معطيات دقيقة في هذا المجال.
رغم تقدم الإعداد لمشروع القانون المتعلق بالسلامة الإحيائية، فهو يسير ببطئ وسط تزايد التهديدات المختلفة على البيئة في بلادنا ومن بينها التغيرات المناخية. ومع انشغال الطبقة السياسية في المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تطغو على الساحة منذ 2011، فإن البيئة والمسائل التي تتعلق بها تبدو على الأرجح مؤجلة، في حين أن إقرار هذا القانون وتفعيله قد يحمي تونس من آفات بيئية عديدة كان التدخل للوقاية منها غير متاح لمجرد عدم وجود تشريع ينظم المجال.