افتتحت قبل أيام مراسم التوقيع على اتفاق باريس بشأن تغير المناخ والذي تم الاجماع عليه العام الماضي في باريس من قبل 195 دولة ضمن مؤتمر الاطراف الواحد والعشرون وسيبقى باب التوقيع مفتوحا لغاية نيسان 2017.بينما يرى الكثيرون أن الاتفاق يعتبر تاريخياً من حيث إجماع كل من الدول الصناعية والدول النامية لأول مرة على سياسة إطارية موحدة بشأن تغير المناخ، ينذر البعض الآخر أن نجاح الاتفاق مقترن بخطط التنفيذ وآليات المراجعة الخاصة به.
وعلى كل الاحوال فإن الاتفاق والعملية التي صاحبت تحضيره يعتبر انموذجا يحتذى به في الحوكمة الدولية وفي حشد التأييد على مستوى السياسات. والقضية المهمة حالياً متعلقة بمدى قدرة دول العالم على تبني مثل هذا النموذج على الصعيدين الوطني والمحلي كما ويتعلق بقدرة الدول ان تكون بحجم المسؤولية لدعم تنفيذ الاتفاق من حيث التحرك بفاعلية مستغلة الزخم الكبير الحاصل حول قضية تغير المناخ ومستغلة الموارد المتنوعة والمتاحة.
اتفاق باريس : نهج تشاركي في سبيل التصدي لتغير المناخ (Bottom-Up Approach)
يدعم اتفاق باريس التعهدات وآليات التقييم المُقرة بأسلوب تشاركي ضمن ما يعرف بالمساهمات المحددة وطنياً NDCs ويعترف بالأهداف المعلنة للتخفيض من الانبعاثات- الناتجة من تدابير التخفيف- ولكن لا يعتبرها ملزمة قانونياً. ويلزم اتفاق باريس الدول مجتمعة بوضع اهداف محلية متعلقة بتخفيض الانبعاثات كما ويلزم الدول بوضع سياسات لتحقيقها الا ان الأهداف بحد ذاتها توضع بشكل منفصل عن الاتفاق في ما يعرف ب"السجل العام".
تعتمد المساهمات المحددة وطنيا على السياسات والتدابير الموجودة أصلاً في البلدان الا أن التحدي الرئيسي يكمن في ترسيخ هذه المساهمات الوطنية وتعزيز تكاملها ضمن برامج واستراتيجيات القطاعات المختلفة (في ما يعرف بالتناغم ما بين السياسات) وإدماجها مع استراتيجيات النمو الأخضر المستقبلية.
وتمثل المساهمات المحددة وطنياً (NDCs) فرصة كبيرة لربط جهود التصدي لتغير المناخ بالتنمية من حيث تطوير مساقات تنموية مرنة وتتسم بكونها منخفضة الكربون.
وجدير بالذكر انه ولغاية شباط 2016 قد تم تقديم ما مجموعه 161 مساهمة محددة وطنيا 2016 تمثل 188 دولة وتغطي ما مجموعه 98.7٪ من الانبعاثات العالمية.
آلية المراجعة Review Mechanism
يؤسس اتفاق باريس لإجراءات مراجعة دورية للمعلومات المقدمة من الدول المختلفة حول جهودها الوطنية في التصدي لتغير المناخ وفق ارشادات سيصار إلى اعتمادها من قبل مؤتمر الأطراف العامل بوصفه "اجتماع الاطراف في مؤتمر باريس" وينص الاتفاق بعمل المراجعة على مستويين: مستوى فردي (على مستوى الدول) يتبعه مستوى كلي عالمي.
ويؤسس الاتفاق ايضاً لآلية التزام compliance قائمة على رأي اصحاب الخبرة والاختصاص. وتبقى تفاصيل آلية المراجعة والالتزام مرهونة بالجهة التي ستسند اليها اجراءات "دخول الاتفاق حيز التنفيذ".
وبهذا فان اتفاق باريس يتسم بدعم الالتزامات المعلنة من قبل الدول ويضع الية موحدة مقارنة لمراجعة الانجاز وتعزيزه عند الحاجة.
نهج الشفافية وتحمل المسؤولية والمساءلة (Accountability and Transparency)
إن أحد أهم التغييرات التاريخية التي ساهم اتفاق باريس في خلقها هي التحول من مرحلة تبادل اللوم بين الجهات المختلفة بخصوص عدم النجاح في تحقيق الالتزامات القانونية تجاه اتفاقية الامم المتحدة الإطارية، الى التنافس الفاعل في جهود التصدي لتغير المناخ لمواجهة هذا التحدي المشترك.
ومن جانب آخر تعزز آلية الشفافية المذكورة في الاتفاق هذا التحول من خلال السماح للصحفيين والنشطاء والعلماء والمواطنين المعنيين والشركات الخضراء بالمشاركة في مناظرات ونقاشات ونشر قصص النجاح والدروس المستفادة، اضافة الى تبادل المساعدة والمشورة بين البلدان. كما ويضع الاتفاق لأول مرة آلية مراجعة للتعهدات المالية المحددة من قبل للبلدان الصناعية والمتقدمة.
أما فيما يخص المساءلة، فينص الاتفاق على تطبيق المساءلة على تنفيذ المساهمات المحددة وطنياً وسيقاس الانجاز في حالة الحكومات من خلال بنود اتفاقية الامم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ والآليات المرتبطة بها. اما في حالة جهود شركات الاعمال، فرغم كون المسؤولية موزعة بين جهات عدة الا ان هذا لا يجعل المساءلة أقل قوة حيث أن على الشركات أن تتوقع ان تكون عرضة للمساءلة من قبل السلطات الحكومية المحلية ومن قبل منظمات المجتمع المدني ومن قبل عملائهم الذين يزداد وعيهم حول اثار التغير المناخي مع الوقت اضافة الى موظفيهم والمستثمرين.
أدوات التمويل (Climate Finance)
يُعظّم اتفاق باريس من خلال اهدافه والالتزامات التي يفرضها دور التمويل ويركز على حشد الموارد المالية والقدرات الفنية لدعم أهداف الاتفاق الاستراتيجية الهادفة لتخفيض الانبعاثات.
من الأمثلة على نوافذ التمويل العالمية في مجال تغير المناخ: صندوق المناخ الأخضر، صندوق التكيف، صندوق التكنولوجيا النظيفة، مرفق البيئة العالمي (Global Environment Facility) ومرفق اجراءات التخفيف الملائمة وطنياً (NAMA Facility) وعدد من ادوات التمويل الثنائية. و من المتوقع أن يكون القطاع الخاص أكبر مساهم في استثمارات التصدي لتغير المناخ . كما من المتوقع مستقبلياً ان تكون معظم مصادر الاستثمار في مجال التغير المناخي من القطاع الخاص.
أما في الأردن، فتشمل أدوات التمويل الوطنية الصندوق الأردني للطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة تحت مظلة وزارة الطاقة والثروة المعدنية بالإضافة إلى عدد من أدوات التمويل الخضراء التي تنفذ من قبل البنوك التجارية ومؤسسات تمويل المشاريع الصغيرة.
وصف اتفاق باريس من قبل مستثمري القطاع الخاص بانه غيّر القواعد المعمول بها من حيث دعمه للاستثمارات ذات الأثر الكربوني المنخفض، حيث شدد الاتفاق على اهميه هذه الاستثمارات وعلى اهمية تحديد سعر الكربون كعوامل فاعلة وحيوية في تمويل المشاريع والبرامج الوطنية. وأسس الاتفاق لنموذجين للإتجار بالكربون حيث سيتم تحديد قواعد مفصلة لكل نموذج خلال الخمس سنوات القادمة.
من الجدير بالذكر أن التمويل العالمي لمشاريع التغير المناخي ازداد بنسبة 18% في عام 2014 ليرتفع إلى 391 مليار دولار. منهم 9 مليار دولار استثمرت في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا وكانت حصة القطاع الخاص منها حوالي 44% أي ما يعادل 2 مليار دولار. حازت مشاريع الطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة والنقل المستدام على معظم التمويل المتعلق بالتخفيف من الانبعاثات، في حين حازت قطاعات إدارة المياه والمياه العادمة الجزء الأكبر من التمويل المتعلق بالتكيف مع تغير المناخ.
دور الجهات غير الحكومية (Role of Non-State Actors
تضم الجهات غير الحكومية بشكل رئيسي المنظمات والجمعيات غير الحكومية والمدن والأقاليم، إضافة إلى شركات الاعمال. يعتبر اتفاق باريس نقطة تحول مهمة للتأكيد على الدور القيادي للجهات غير الحكومية وخصوصاً دور القطاع الخاص إلى جانب الحكومات. وتحتوي الاتفاقية على رسالة واضحة للقطاع الخاص ومجتمع الأعمال من خلال دعوتهم للمشاركة في جهود التصدي لتغير المناخ وتنفيذ مشاريع طويلة وقصيرة الأمد تهدف للتقليل من الانبعاثات.
ان للجهود الريادية في مجال التصدي لتغير المناخ أثر إيجابي يظهر من خلال ما يعرف بسلسلة القيمة (وهي سلسلة النشاطات التي تساهم بقيمة المنتج): فتقليل الانبعاثات سيساهم في تقليل الكلفة وتعزيز الشراكة مع أصحاب العلاقة ويفضي الى سمعة إيجابية للأعمال.
يدعو الاتفاق أصحاب العلاقة لتعزيز جهودهم وابرازها على موقع الاتفاقية الاطارية بشأن تغير المناخ UNFCCC ، ويؤكد أهمية السياسات المحلية والاتجار بالكربون كأدوات تنفيذية.
وجدير بالذكر أن أكثر من 11000 التزام من 4000 شركة وسلطة محلية قد تم تسجيلها لحد الان على موقع UNFCCC http://climateaction.unfccc.int ومن المتوقع آن يزداد هذا العدد في السنوات القادمة.
—————————————————————————-
*بعض المعلومات المتضمنة في هذا المقال تم بناؤها على محتوى تم تطويره من قبل الكاتب في فبراير 2016 خلال مشروع نفذ من قبل الوكالة الألمانية للتنمية –GIZ في الأردن بالشراكة مع وزارة البيئة يتعلق بالتحليل المقارن للمساهمات المحددة وطنياً.
ترجمة
ربى عجور – مختص دراسات بيئية في مركز البيئة والمياه /الجمعية العلمية الملكية-الاردن
Pingback: Ruba A. Al-Zu'bi
Pingback: السياسات المناخية في تونس : ناجعة رغم ضعف الإمكانيات | EcoMENA