مستقبل المدن الذكية المستدامة: حالات دراسية من نيوم ومدينة مصدر

ينتشر مصطلح ما نسميه اليوم “المدن الذكية” على نطاق واسع دلالة على ظاهرة المدن التكنو-حضرية، خصوصاً في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. وقد وصلت العديد من المدن الكبرى إلى مستويات عالية من التحدي لمواكبة التحول العالمي المرتبط بهذا الخصوص، والذي من شأنه أدى الى تطورات جديدة ومتعددة وصولاً لأحدث معايير الحياة الذكية والمستدامة.

وبالرغم من ذلك، فإن بعض هذه المدن تجاوزت تلبية التوقعات المطلوبة، بل قامت بإعادة تعريفها، فمثلاً تعد مدينة نيوم ومدينة مصدر في الشرق الأوسط من أكثر المدن الرائدة في هذا المجال الطموح، إذ أنهما تعيدان تشكيل الحياة الحضرية من خلال تصاميم ذكية تهدف إلى الحد من الآثار السلبية للمدن الحديثة، وخلق مجتمعات مثالية للمستقبل.

neom project

إعادة تعريف الحركة الحضرية

بينما يتفاقم الازدحام المروري اليوم في المدن الكبرى حول العالم، وحتى مع كل مشاريع توسعة الطرق إلا أنها فعلياً لا تلبي الطلب المتزايد للركاب لاستخدام أنظمة نقل فعالة. ففي أكبر مدن اليابان مثلاً حين تكون ساعات الذروة في القطارات مرتفعة وشديدة للدرجة التي يُدفع فيها الناس لعربات القطارات فعلياً لاستيعاب أكبر عدد من الركاب. بهذا الوقت تكون المحطات أشبه بالأسواق المزدحمة بدلاً من أن تكون مراكز نقل عملية وسهلة، وغالبًا ما تبدو الطرق السريعة أشبه بمواقف السيارات أكثر منها بالطرق الفعالة.

حسب مؤشر توم توم لحركة المرور، فإن أكثر المدن ازدحاماً هي بارانكويلا في كولومبيا حيث تحتاج ما يقارب أربع ساعات لقطع مسافة ستة أميال فقط خلال ساعات الذروة، مما يجعل السكان فيها يفقدون ما لا يقل عن 126 ساعة سنوياً في التنقل. بالمقابل فإنك تستغرق 18 دقيقة فقط لقطع المسافة نفسها في مدينة ثاوزند أوكس في كاليفورنيا، الولايات المتحدة الأمريكية. تلوث طرق العالم اليوم 1475 مليار سيارة وإذا اضفنا الدراجات النارية لهذا العدد، فإن 600 مليون دراجة نارية تعادل 2075 مليار مركبة تُضاف للعدد المذكور.

يُعد التصميم والسياسات الحضرية موضوعاً بالغ الأهمية في تحسين كفاءة النقل، وهنا تُولي مدينة مصدر أولوية كبيرة للتخطيط الحضري الذي يركز على المُشاة، مشجعة بذلك الاعتماد على البدائل المستدامة كالمشي وركوب الدراجات الهوائية بدل السيارات. أُقيمت هذه المدينة دون أي مراعاة لوجود السيارات الخاصة، بل الاعتماد على نظام النقل الشخصي (PRT) وهو عبارة عن شبكة مركبات كهربائية ذاتية القيادة تقلل الازدحام وكذلك التلوث. يربط هذا النظام الخالي من الانبعاثات أجزاء متعددة من المدينة للحد من مشاكل المرور الشائعة في المناطق الحضرية التقليدية.

في الوقت ذاته، فإن مشروع “ذا لاين” في نيوم يرتقي بكفاءة النقل إلى مستوى أعلى، حيث يمتد المشروع على مسافة 170 كيلومتراً، وهو مصمم بدون سيارات أو طرق، معتمداً اعتمادا كلياً على نظام سكك حديدية عالية السرعة يُمكّن القيام برحلة في 20 دقيقة فقط من البداية للنهاية. هذا التصور الجذري للتنقل لا يقلل فقط من انبعاثات الكربون فحسب، بل أنه يعزز سهولة الوصول والراحة، مُرسياً بذلك معياراً عالمياً جديداً للنقل الحضري والالتزام بتحقيق صفر صافي انبعاثات.

لقد بلغ الاستهلاك العالمي السنوي للطاقة حالياً مستوىً مقلق وصل إلى 580 مليون تيرا جول، اي ما يعادل 13685 مليون طن من النفط. وهنا فإن مشروعا نيوم ومصدر يُعدّا من المشاريع الرائدة في الحد من الاثر البيئي من خلال تصميم مُحسن للمباني وحلول مستدامة للطاقة.

تعتبر مدينة مصدر من المدن الرائدة عالمياً في ابتكار التكنولوجيا النظيفة، حيث إنها تُشغّل واحدة من أكبر محطات الطاقة الشمسية الكهروضوئية في الشرق الأوسط، وهذه المحطة تُولّد 17500 ميجاواط/ساعة من الطاقة سنوياً. إضافة إلى ذلك فإن البنية التحتية الذكية للمدينة تتضمن إضاءة طبيعية محسّنة وأيضاً تصميم للتبريد السلبي، الامر الذي يُخفّض الطلب على الطاقة حتى في الاجواء الصحراوية القاسية في الامارات. ولذلك فإن المباني في مدينة مصدر تستهلك طاقة ومياه أقل بنسبة 40% إذا قورنت بالمباني التقليدية.

sustainable smart cities

ومن جانبها فإن مدينة نيوم تلتزم بتحقيق طاقة نظيفة بنسبة 100% في جميع القطاعات، وتطمح إلى توسعة نطاق تأثيرها عالمياً. تؤسس نيوم في أوكساجون أكبر محطة هيدروجين أخضر خالٍ من الكربون في العالم، ومن المقرر أن تقوم بدمج ما يقارب ال 4 جيجاواط من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح لتنتج 600 طن من الهيدروجين الخالي من الكربون سنوياً بنهاية عام 2026.

نهج يركز على الإنسان

من معايير المدن الذكية ليس فقط التركيز على التكنولوجيا فقط، بل أيضاً التركيز على الإنسان، حيث يجب أن تُصمم بما يتماشى ورفاهية سكانها. في مدينة مصدر، مكّن استخدام ودمج التكنولوجيا من إعطاء الأولوية لاحتياجات الناس. حيث تُبرز الحدائق الخضراء في المدينة أهمية التعايش والتفاعل مع المساحات الخضراء، وكذلك فإن قلة السيارات الخاصة أيضاً تجعل منها مدينة أكثر ملائمة للمشاة.

ومع ذلك فإن مشروع نيوم، ذا لاين، يرتقي بنوعية وجودة حياة السكان عن طريق دمج مفهوم الحياة في بيئة خالية من الجاذبية، حيث إن السكان يعيشون وسط طبيعة محمية. هذا النهج الجذري يعالج الانفجار السكاني وكذلك التحديات البيئية في نفس الوقت. وأيضاً فإن مشروع نيوم بطريقه لتأسيس مدينة لا تتجاوز الخمس دقائق. حيث سيتمتع سكانها التسعة ملايين بإمكانية الوصول “العادل” لكل المرافق والخدمات. كل هذه الأمور في غضون دقائق قليلة مما يخفف ضغط التنقل ويعطي السكان الوقت الإضافي للاشتراك في النشاطات والفعاليات العائلية والاجتماعية.

masdar smart city

مدن جاهزة للمستقبل

إن ارتفاع درجات الحرارة في المحيطات والغلاف الجوي يؤدي إلى المزيد الكوارث، مما يجعل من المدن الذكية – القادرة على مواجهة الكوارث – ضرورة لضمان سلامة ساكنيها. حيث أن التصميم المبتكر للبُنية التحتية يُتيح التكيف مع الظروف المناخية المختلفة مثل؛ الحرارة الشديدة والجفاف والفيضانات والغبار والعواصف الرملية. كما وتهدف هذه المدن إلى الحد من الانبعاثات الضارة بالبيئة. يتمثل هدف مدينة مصدر بتحقيق صفر صافي انبعاثات بحلول عام 2050. مما يجعلها نموذجاً يُحتذى به للمدن المستدامة الأُخرى.

وفي غضون ذلك، فإن لتغير المناخ تأثيراً كبير في تصميم مدينة “ذا لاين” الطموحة. تصّور لنا نيوم اليوم مدينةً نموذجية حضرية مكتفية ذاتياً، ملائمة لحياة حضرية فُضلى ومرنة، يتمثل هدفها في توفير مناخ مثالي للسكان على مدار العام، ويجمع أفضل توازن بين ضوء الشمس والظل والتهوية الطبيعية.

قيادة مستقبل التحضر المستدام

تُقدم لنا اليوم مدينتي مصدر ونيوم لمحة عن مستقبل المدن الذكية المستدامة، وما يستطيع الإنسان أن يحققه باستخدام التقنيات المتاحة. تُشكّل هاتان المدينتان بفضل مناهجهما المبتكرة في البنية التحتية والنقل والطاقة والحوكمة، إنجازاً عالياً في مجال التنمية الحضرية على مستوى العالم، فهما تبرزان إمكانات الطاقة المتجددة وتظهران أيضاَ إمكانية التعايش بين الاستدامة والتصميم المُركز على الانسان.

في حين تُشكّل تغيرات المناخ والتوسع الحضري السريع تحدياً كبيراً للعالم، فإن مدن مثل نيوم ومدينة مصدر توفران خريطة طريقٍ للمستقبل، حيث تتناغم التكنولوجيا والطبيعة معاً لخلق مساحات أكثر ذكاءً وخُضرةً وكذلك أكثر ملائمة لعيش الجميع.

ترجمة: ماجدة هلسه

أردنية متعددة الإهتمامات، لديها من الخبرة ما يقارب السبعة وعشرون عاماً في مجال المالية والإدارة في المؤسسات المحلية والدولية، وتعمل ماجدة حالياً مع التعاون الدولي الالماني كموظفة مالية. ومع ذلك كله وعلى الصعيد التطوعي، فإن لديها شغفاً كبيراً بالترجمة في كافة المواضيع والمجالات، وقد بُني هذا الشغف بالخبرة الشخصية والعملية على مدى هذه السنين.

Note: The original English version of the article is available at this link.

Tagged , , , , , , , , . Bookmark the permalink.

About Jane Marsh

Jane is the editor-in-chief at Environment.co, specializing in sustainability, climate change, and renewable energy. In her free time, she enjoys nature trails, eco-friendly DIY projects, and volunteering with environmental groups.

Share your Thoughts

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.