تشتمل تعاليم الدين الإسلامي على الكثير من مبادئ الاستدامة التي تداخلت مع التنظيم الإجتماعي والسلوك الإنساني للمجتمع والتي انعكست على النتاج العمراني، والعلم الحديث قادرعلى تطوير قدرات الانسان من أجل استغلال المصادر الطبيعية بشكل يفوق ما حققته العمارة التقليدية، بيد أن ذلك يتطلب تطبيقا منهجيا للعلم ومقارنة شاملة بين الإنشاءات الحديثة والتقليدية، وإحياء المبادئ التي اعتمدت عليها الحلول التقليدية. بغير هذه الطريقة لا يمكن للعمارة الحديثة أن تتفوق بإنجازاتها الإنسانية والبيئية على ما قد أنجزته العمارة التقليدية، حيث أن الوسائل والأفكار المعمارية التقليدية قد تفقد أهميتها مقابل الراحة والسهولة اللتين توفرهما الحلول الميكانيكية، لكنها تسببت بالإستعمال غير المحدود للآلة والذي ساهم في المشكلات الحالية للطاقة والبيئة. ومن أجل ذلك كان العمل الجاد للعودة الى مصادر الطاقة الطبيعية، وفي هذا المجال يمكن أن تكون الحلول التقليدية التي طورتها أجيال من المجتمعات في عمارتها التقليدية، بالإعتماد فقط على مصادر الطاقة الطبيعية، ذات فائدة عظيمة لفتح آفاق جديدة من البحث والتطبيق .
مبادئ الاستدامه في المسكن التقليدي
توافق المسكن التقليدي مع البيئة بكل إيجابيتها وسلبياتها، حيث تم تحقيق الحماية بالحد من تأثير ظروف البيئة الطبيعية القاسية كالمناخ الحار والرطوبة النسبية وشدة الإشعاع الشمسي، أما التكيف فكان بإستغلال الإمكانيات الكامنه لمصادر الطاقة الطبيعية كالشمس والرياح.
هناك العديد من المبادئ الأساسية التي استندت عليها عمارة المسكن التقليدي، والتي يمكن مع بعض التعديل والتطويرأن تكون مؤشرات دالة لتصميم المسكن المستدام المعاصر:
1-البناء بالطين او الآجر
إن المواد المحيطة بساكني المبنى مهمة جدا لتوفير الوقاية من الظروف الخارجية، ويجب بذل عناية كبيرة في إختيارها، بحيث يتناسب ذلك مع خواصها الفيزيائية بالنسبة للتوصيل الحراري، والمقاومة الحرارية، والانفاذ الحراري، وعاكسية الضوء. كما أنها المسؤولة في تحديد المدة الزمنية لإنتقال الحرارة من وإلى المبنى.
يعتبر الطين أو الطوب اللبن أفضل مادة بناء طبيعية، حيث يمكنه توفير العزل الحراري للمبنى، كما يساعد على الحد من إستنزاف الموارد الطبيعية الحيوية، وإنبعاثات الكربون. واستعمل الطين على نطاق واسع في العديد من المبانى الإسلامية على مر العصور، أما الآجر فمن أهم مواد البناء التي استخدمت في العمارة الإسلامية، وخاصة في مصر والعراق وبلاد المغرب العربي حيث يندر وجود الخشب والحجر، ويعرف في العراق باسم الطابوق وفي مصر باسم الطوب الاحمر، وهو يستخدم في بناء الحوائط الحاملة أو كأكتاف أو في بناء القباب والاقبية، وفي حالة بنائه بسمك كبير فإنه يساعد على توفير عزل حراري جيد للفراغات الداخلية بالمبنى.
2– الراحة الحرارية
استند الفكر التصميمي للمسكن التقليدي على استخدام الفناء الوسطي كنقطة مركزية لتحقيق مبدأ التوجه نحو الداخل، وكان بمثابة الرئة والمتنفس الرئيسي للمسكن، حيث يعمل كمنظم حراري مستفيدا من التذبذب الكبير بين درجات الحرارة ما بين الليل والنهار، وتكوين أماكن ضغط متباينه ما بين الشوارع الضيقة المظللة والفناء الوسطي المفتوح.
وبصفة عامه غالبا ما كان تتتوسط الفناء الداخلى نافورة او بركة ماء او السلسبيل، وكان يزود بالأشجار المثمرة. حيث كانت تعمل هذه العناصر مجتمعه على ترطيب الهواء الجاف وتخفيض درجة حرارته.
ولقد أدخلت بعض التعديلات على مفهوم الفناء لضمان تدفق الهواء ومنها جاء كل من:
– الإيوانات: وهي حيزات تسبقها شرفات تحيط بفناء مركزي مكشوف، خطط بحيث يحتوي قدرا من الظل طوال اليوم، ويفتح الإيوان على الفناء بكامله، وتضم المنازل ايوانان أحدهما صيفي يواجه الشمال، والآخر شتوى يواجه الجنوب.
– التختبوش: وهو حجرة مفتوحة بالكامل على الصحن، ترتفع رضيته عن الفناء وكان خاصا لاستقبال الضيوف في فصل الصيف وتتجه واجهته المطلة على الفناء الى الشمال ويساعد التختبوش على تدفق الهواء حيث يقام بين الفناء والحديقة.
– المقعد ويوجد غالبا أعلى التختبوش وتكون واجهته محمولة على أعمدة ويطل على الفناء وبهذا التكوين فإن التختبوش والمقعد يتعرضان لأقل عدد من ساعات التعرض للشمس مع أقل كمية ممكنة من الطاقة الشمسية عن الواجهات الأخرى.
3 -التهوية الطبيعية
يعتبر توفير التهوية الطبيعية من أهم مبادئ التصميم المستدام في المسكن التقليدي، حيث تقوم التهوية الطبيعية بتبريد جسم الانسان، لانه بازدياد سرعه الهواء يرتفع معدل انتقال الحرارة من جسم الى البيئة المحيطة، كذلك تساعد على التخلص من الرطوبة وتبريد المبنى.
إن ملاقف الهواء هي الوسيله الأهم لإصطياد الرياح وإدخالها إلى فضاءات المسكن، حيث تعتبر أحد أهم العناصر الممميزة في المباني الاسلامية، تقوم الملاقف بتكوين مناطق ضغط متباينة، فتدخل الهواء بعد تنقيته وترطيبه ومن ثم تخرجه عبر فتحات اخرى، و تكون العملية عكسية في ساعات الليل، كما يفيد الملقف في التقليل من الغبار والرمال الذين تحملهما رياح الاقاليم الحارة والجافة حيث تتراكم في النهاية في قعر المهوى.
وتنقسم ملاقف الهواء الى عدة أنواع: أهمها ملقف السطح والملقف ذو البئر وهما ملاقف ذات اتجاه واحد يتبع اتجاه الرياح السائدة، أما الكاشتيل أوأبراج الرياح فهي متعددة الاتجاهات، وهناك الملاقف البسيطة الشكل مثل الحائط المزدوج والكوات الحائطية والبدقش.وأخيرا البادجير وهو ملقف من نوع خاص تم تطويره في دول الخليج وللبادجير مهوى مفتوح من اعلاه على اربع جهات اواثنتين فقط وبداخله قاطعان متعامدان يشكل موروب على ارتفاع المهوى بكامله وذلك لاقتناص الهواء من اي اتجاه.
4– البناء تحت الارض
إن استغلال إمكانيات التربة أحد المبادئ التي يعتمد عليها التصميم المستدام للاستفادة من الموارد الطبيعية. تعتمد فكرة البناء تحت الأرض على تقليل أو تحديد تأثير الظروف المناخية الخارجية على الفضاءات الداخلية، وذلك بالإستفادة من إمكانيات الخزن الحراري لكتله التربة الذي يسمى التكييف بتأثير الكتله.
تتجسد الإستفادة من خصائص باطن الارض للوصول إلى الراحة الحرارية في فضاء السرداب أو البدروم وهو عبارة عن طابق كامل أو أكثر تحت الارض. كما يمكن أن يكون السرداب بأكثر من مستوى تبعا للظروف المناخية والأدائية الوظيفية، ونجد له مثالا في المسكن التقليدي في العراق بإحتواءه على ما يسمى تيم سرداب وهو عبارة عن نصف سرداب يقع على عمق 1-1.2م مزود بفتحات تطل على الفناء الوسطي .
وقد انتشر استخدام السراديب التقليدية في المناطق المرتفعه عن متوسط المنسوب العام للمنطقة مثل العراق ومصر السعودية، كما توجد أمثلة على المساكن المشيدة تحت الارض بشكل كامل كما في مطماطة في تونس وغريان في ليبيا، أما في المناطق التي يكون منسوب المياه مرتفعا في التربة فيقل استعمال السراديب مثل المناطق الجنوبية من العراق، أو يكاد ينعدم كما في منطقة الخليج العربي.
اتضحت كفاءة الأداء الحراري للسرداب خاصة في ساعات بعد الظهيرة، حيث تصل درجات حرارة الهواء الخارجي إلى حدودها القصوى، أما الفضاءات الأخرى فتقل كفاءة أدائها الحراري كلما ارتفعنا، حيث الطابق الأرضي أفضل في أدائه الحراري على الطابق الأول من السقف المعرض لأشعه الشمس المباشرة طوال النهار، ففي الصباح يستعمل الطابق الأرضي وأحيانا السرداب، وفي المساء تستعمل الطوابق العلوية.
5-الإضاءة الطبيعية
تمثل الإضاءة الطبيعيه أهم إستراتجيات المسكن المستدام لتقليل العبء الحراري، وبالتالي توفير بيئة مريحة للساكنين حيث وجد أن الاضاءة الطبيعية من النوافذ أفضل بثلاث مرات في تحسين الرؤية من الإضاءة الصناعية المعادلة لها.
تكمن المعضلة بأن النوافذ تعتبر مصدرا رئيسيا لنفاذ الحرارة لداخل المبنى، مما جعل العمارة التقليدية تطور أساليب مبتكرة للحصول على الإضاءة الطبيعية وطرد اشعة الشمس المباشرة، ومن أهمها المشربيات أوالشناشيل أوالروشن وهي معالجات معمارية تسمح بدخول الرياح الملطفة، ولا تسمح بدخول أشعه الشمس، وعادة ما تغطي السطح الخارجي للشبابيك والبلكونات أو الشكمة التي تستعمل للجلوس في الداخل. تعمل المشربية على ضبط مرور الضوء و تدفق الهواء، وأخيرا تحقيق الخصوصية بفضل خرطها الضيق الذي يصنع من قطع خشبيه مخروطة ومتداخلة. وقد إنتقلت المشربية من مصر إلى بعض الدول العربية وكانت تصنع أحيانا من خامات غير الخشب كالرخام أو الجص أو المعدن.
مما لاشك فيه أخيرا أن المسكن الإسلامي من أحد أهم النماذج نجاحا في تحقيق مفاهيم العمارة الخضراء، حيث نجح في تحقيق التوازن بين الجمال والوظيفة، فقد وجدت عناصر التراث المعماري الإسلامي لتعمل وتكمل بعضها البعض، مع التوليف بين الظروف المناخية والبيئية والاجتماعية المختلفة. أما العمارة المعاصرة فهي تواجه تحديات كثيرة لتثبت أنها قادرة على استيعاب متطلبات التنمية المستدامة والحفاظ على البيئة، لذا فعليها إعادة استكشاف مبادئ العمارة التقليدية وإختيار ما هم ملائم منها للبيئة المحلية والمؤثرات البيئية، لتطوير ومزج هذه المبادئ مع التقنيات الحديثة، واستخدامها في عمارتنا المعاصرة ومساكننا في الوقت الحاضر والمستقبل، حيث يمكن للتقنيات الحديثة أن تجعل استخدام مبادئ العمارة التقليدية أكثر يسرا وكفاءة لتحقيق مبادئ العمارة المستدامه.
Pingback: العمارة العربية الإسلامية والبيئة | EcoMENA
Pingback: المشربية: بين الجمال والوظيفة | EcoMENA