تميزت العمارة والفنون الإسلامية بمجموعة من الأساليب والخصائص التصميمية والتي يمكن من خلال دراستها أن تمثل مصدراً لمجموعة من الأسس والقيم التصميمية، وقد كان الفن الإسلامي بطبيعته فناً بيئياً حياتياً يلعب الجمال فيه دوراً بارزاً، حيث تجده في معظم الأحوال مستلهماً من الطبيعة، ومستفيداً من أشكالها، ومحاكياً لعناصرها، بأسلوب تجريدي لتحقيق التطور التصميمي من زخرفة العناصر المعمارية الأساسية والتكميلية التي تؤكد على الطراز الإسلامي.
وبالرغم من تنوع الأنماط المعمارية عند المسلمين إلا أن العمارة لم تغفل عن إعطاء البيئة والمحيط القدر الكاف من التميز، مما أتاح المزيد من التجسيد الفعلي لمعاني الإسلام حتى على مستوي الحفاظ على البيئة، ومن الجدير بالذكر أن العمارة عند المسلمين كانت نموذجاً مباشراً لتلبية الوظيفة بتداخل مع الثقافة وحسب الإقليم ولكن بمضمون واحد، حيث أن الصحراء الشمالية في مصر مروراً بشبه الجزيرة العربية وانتهاءً بالعراق، جميعها ذات طابع مناخي واحد، يتسم بالحرارة العالية جداً والجفاف الشديد و في ظل هذه الظروف المناخية الصعبة، كان لابد للإنسان أن يطور طريقته بالبناء بحيث يوفر البيئة الداخلية المناسبة للحياة والقيام بنشاطاته بمنعزل عن أجواء الصحراء الحارة.
لقد طورت العمارة الصحراوية التقليدية حلولاً إبداعية تعاملت فيها مع مختلف العوامل البيئية لتحقيق أفضل الظروف المعيشية داخل الفراغ المعماري، حيث عرف سكان هذه الصحاري كيفية استغلال الطاقة التي توافرت في بيئتهم المحلية، فقدموا أنماطاً وعناصراً معمارية أغنت الحياة الاجتماعية إلى جانب فعاليتها الوظيفية، وهنا تأتي المشربية بما بها من فلسفة جمالية ووظيفية جعلت كثيراً من المباني المعاصرة التي ظهرت في الآونة الأخيرة متأثرة بها بشكل كبير مع دمجها مع التكنولوجيا المعاصرة، وربطها بالاتجاه المستدام للتصميم والهندسة المعمارية.
المشربية
قد يصعب علينا فهم المشربية بمعزل عن البناء ككل لذا لابد من الإشارة الى طريقة البناء الصحراوية، حيث استخدمت الجدران الطينية السميكة في البناء، والتي بدورها عملت كمخزن حراري، لقد كانت فتحات التهوية في هذه الجدران السميكة أشبه بالثقوب الصغيرة والتي عملت إلى جانب ملاقف الهواء والسقوف المرتفعة على تهوية الغرف وتبريدها، لكن هذا النظام لم يكن متكاملاً بما يكفي، وذلك لأن الفتحات الصغيرة لم تكن تكفي لإنارة الغرف، فنتج عن ذلك فراغات معمارية معتمة، قليلة الصلة بالفراغ الحضاري في الخارج أو البيوت المجاورة، لقد قدمت المشربية الحل لهذه المشاكل، حيث أنها تدخل كميات كثيرة من الضوء غير المباشر، وتمنع الإشعاع الشمسي المباشر المصحوب بدرجات حرارة عالية من الدخول عبر فتحاتها، وبالتالي قدمت المشربية إنارة ذات كفاءة عالية دون زيادة درجات الحرارة في الداخل، كما أسهمت بزيادة تدفق الهواء بنسبة عالية، وبالتالي زيادة التهوية والتبريد للغرف، وتكمن روعة هذا العنصر المعماري في تكامل وظيفته مع قيمته الاجتماعية والجمالية.
الظهور
نظراً لطبيعة العمارة دائمة التقلّب والتطوّر ،يصعب تحديد الزمن الذي ظهرت فيه المشربية على وجه الدقّة، لكن ما يمكن تأكيده هو أنّ عمليات تطويرها وتحسين أدائها لم تتوقّف لمئات السنين، حيث انتشرت المشربية في الفترة العباسية (750 – 1258) واستخدمت في القصور وعامة المباني وعلى نطاق واسع، إلا أن أوج استخدامها كان في العصر العثماني (1805 – 1517) حين وصلت إلى أبهى صورها وانتشرت انتشاراً شبه كامل في العراق والشام ومصر والجزيرة العربية وذلك لأنّ استخدامها في مختلف المباني أثبت فعاليّة كبيرة في الوصول إلى بيئة داخليّة مريحة وفعالة بالرغم من الظروف الخارجيّة شديدة الحرارة.
التسمية
إن تسمية المشربية مشتقة من اللفظة العربية شرب وتعني في الأصل مكان الشرب، وكانت في الماضي عبارة عن حيز بارد ذي فتحة منخلية، توضع فيها جرار الماء الصغيرة لتبرد بفعل التبخر الناتج عن تحرك الهواء عبر الفتحة، ومن هنا عرفت المشربية بهذا الاسم، وهناك من يرى أنها سميت بالمشربية لصناعتها من خشب يُعرف بالمشرب، ثم اتسع مدلول هذا المسمى ليشمل كل الأجنحة الخشبية المنفّذة بطريقة الخرط، والتي نطلق عليها حالياً الأرابيسك والتي كانت تُغطي بها النوافذ، كما عرفت المشربية أيضاً في باقي الدول الإسلامية باسم الروشان أو الروشن وهي تعريب للكلمة الفارسية (روزن) والتي تعني الكوة أو النافذة أو الشرفة.
الوظائف
-
ضبط درجات الحرارة صيفاً وشتاءً
إن أكبر مسبب لارتفاع درجات الحرارة في الفراغات المعمارية الداخلية هو الكسب الحراري المباشر من أشعة الشمس، وبما أن المشربية سمحت بالفتحات الكبيرة في الجدران فقد أصبح من الممكن لتيار ثابت من الهواء أن يمر عبر فتحاتها إلى داخل الغرف، مما يساعد على تلطيف البيئة الداخلية للمبنى، كما يسمح تصميم القضبان وفتحات المشربية لأشعة الشمس في الشتاء بالدخول الى الفراغ المعماري الداخلي حيث يتم تصميم هذه الفتحات والأخذ بعين الاعتبار زوايا سقوط الشمس شتاءً حيث أنها تكون أقرب إلى الأرض وبالتالي يزيد من درجة الحرارة الهواء شتاء.
-
ضبط تدفق الهواء
توفر المشربية الواضحة فراغات أكبر مما يساعد على تدفق الهواء داخل الغرفة، أما عندما تتطلب اعتبارات الإنارة فتحات ضيقة لتقليل الإبهار، فإن تدفق الهواء ينقص بشكل ملحوظ، لذا يعوض هذا النقص السلبي من خلال فتحات أكبر في الجزء العلوي من المشربية، ومن هنا ظهرت أجزاء المشربية الرئيسية وهي: جزء سفلي يتكون من مشبك ضيق ذي قصبان دقيقة، وجزء علوي يتكون من مشبك عريض ذي قصبان خشبية عريضة اسطوانية الشكل، أما إذا بقيت حسابات تدفق الهواء غير كافية فيمكن فتح الواجهة بأكملها ومن ثم تغطيتها بمشربية واسعة جداً.
-
زيادة نسبة رطوبة تيار الهواء
ويتم من خلال طريقتين: الأولى وضع جرار فخارية ذات مسامية عالية في المشربية، مرور التيار الهوائي فوق هذه الجرار يؤدي الى تبخر كميات من الماء الموجودة على سطحها بالتالي يبرد التيار الهوائي في عملية تسمى بالتبريد التبخيري.
والثانية بسبب المواد المستخدمة في صناعة المشربيات، فالخشب وهو من الالياف العضوية يمتص ويرشح كميات معقولة من الماء بسهولة تامة طالما لم يتم تغطيتها أو دهنها، لذا فإن المشربية تقوم بامتصاص رطوبة الهواء البارد المار فيها ليلاً وعندما تسخن المشربية بفعل ضوء الشمس المباشر نهاراً فإنها تفقد هذه الرطوبة للهواء المتدفق من خلالها نهاراً.
-
توفير الخصوصية
بالإضافة لتأثيراتها الفيزيائية توفر المشربية الخصوصية للسكان مع السماح لهم في الوقت ذاته بالنظر الى الخارج من خلالها وهذا يدعم استخدام المشربية ذات الجزئيين كما يعطي المشربية بعداً نفسياً حيث يشعر الساكن أنه غير مفصول عن الفراغات الخارجية دون فقدان عامل الخلوة.
المشربية في العصر الحديث
ﺇﻥ ﺗﻘﻨﻴﺔ ﺍﻟﻨﺎﻓﺬﺓ ﺍﻟﺸﺮﻗﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﻣﺒﺎﻧﻲ ﺍﻟﺸﺮﻕ ﺍﻷﻭﺳﻂ ﺍﻟﺠﺪﻳﺪﺓ ﻗﺪ ﺗﺤﻮﻟﺖ ﺇﻟﻰ ﻭﺍﺟﻬﺎﺕ ﻣﺰﺩﻭﺟﺔ ﻟﺰﻳﺎﺩﺓ ﺍﻟﺒﺮﻭﺩﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﺍﺧﻞ، ومع تطور التكنولوجيا الحديثة تحولت التكسية الخارجية للمبنى لمصدر جذب للمشاهد الخارجي، حيث فتحت التكنولوجيا مجالات للتشكيل بالضوء والظل باستخدام أجهزة الاستشعار وتكنولوجيا المعلومات.
وﺑﻠﻐﺖ ﺍﻟﻨﻬﻀﺔ ﺍﻟﺤﺎﻟﻴﺔ ﻟﻠﻤﺸﺮﺑﻴﺔ ﺫﺭﻭﺗﻬﺎ ﻓﻲ ﻧﻈﺎﻡ ﺳﺎﺗﺮ ﺣﺴﺎﺱ ﻭﺍﺳﻊ ﺍﻟﻨﻄﺎﻕ خلال تصميم ﻣﺒﻨﻰ ﺃﺑﺮﺍﺝ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﻓﻲ ﺃﺑﻮﻇﺒﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﺻﻤﻤﻪ ﺇﻳﺪﻳﺲ، حيث صممت الأبراج بستار ديناميكي حساس ﻟﻠﺸﻤﺲ ﻳﻘﻠﻞ ﻣﻦ ﺍﻟﻜﺴﺐ ﺍﻟﺤﺮﺍﺭﻱ ﻟها، و قد تم وضعها على بعد مترين خارج المبنى بشكل شبه مستقل، وتحتوي على عدد كبير من المثلثات التي تم تغليفها بألياف زجاجية وقد تم برمجتها على حركة الشمس للحد من حرارتها داخل المبنى، أما في المساء فيتم اغلاق جميع الشاشات ومع بداية الشروق من جهة الشرق تغلق من الجهة الشرقية، اذ تتغير الشاشات على مدار اليوم نتيجة لحركة الشمس على محيط المبنى بسبب أجهزة الاستشعار، مما يقلل من حاجة المبنى للتكييف والاضاءة الصناعية بأكثر من 50%.
كما هناك برج الدوحة في قطر والذي قام جون نوفل بتصميمه وتنفيذه 2002-2012 بارتفاع 231 متر اذ قام بدمج عناصر ووحدات زخرفية إسلامية مستوحاة من الفلسفة الجمالية والوظيفية للمشربية مع التكنولوجيا المعاصرة فهو مبنى أسطواني تم تكسيته بمجموعة من الطبقات الزخرفية المعلقة بخامة الالمنيوم بهدف تظليل المبنى من الشمس وتوفير الإضاءة الطبيعية بالإضافة إلى وجود طبقات من الزجاج العاكس الذي يضيف مفهوم الحماية من الشمس كما يتم اضاءة المبنى في المساء.
ولم يقف ابداع جون نوفل في هذا المجال بل هو على وشك افتتاح أحدث ابداعاته وهو متحف لوفر أبو ظبي والذي بدأه في 2007 اذ تأثر بفلسفة المشربية الجمالية والوظيفية وقدمها في وضع أفقي من خلال تشكيل القبة من عدة طبقات معدنية لتحسين المناخ الحراري للفراغ الداخلي للمبنى اذ يشمل هذا المتحف على مؤثرات ضوئية حركية حيث يمر ضوء الشمس عبر إثنين من الطبقات ويتم حظره من الثالث ويتغير ذلك بمجرد تغيير وضع الشمس مما ينتج عنه بقع ضوئية متغيرة التشكيل في المكان.
ومن هنا يتبين لنا نجاح تطبيق الفكر الاستدامي المرتبط بالموروث الثقافي الإسلامي خاصة وان الفلسفة الوظيفية للعمارة الإسلامية تنبع من الفكر الاستدامي مؤكدا على الهوية والمحلية العربية حيث تبقى المشربية دائما منبع متجدد للإبداع وبالتالي فإن عملية تأصيل النمط التصميمي للعناصر المعمارية الإسلامية ليست مقتصرة على شكل أو طراز معين، وانما هي المضمون أو الطابع الذي تؤثر فيه القيم الوظيفية الأصلية وبذلك يكون هدفنا احياء المعمار بفكر عصري متطور وإعادة التوازن النفسي للإنسان المعاصر ليحقق غايته وهدفه من الحياة بالقيم المعمارية التي تعينه على ذلك.