القيمة الإستراتيجة للأرض في تأمين الأمن الغذائي والمعيشي للأجيال الحالية والمقبلة جعلها تكون محور الشعار الذي رفعه المجتمع الدولي للإحتفال باليوم العالمي لمكافحة التصحر الذي صادف في 17 يونيو 2018 “للأرض قيمة حقيقية – استثمرها”، الشعار تجسيداً لمضمون “الهدف 15 – حماية النظم الإيكولوجية البرية وترميمها وتعزيز استخدامها على نحو مستدام، وإدارة الغابات على نحو مستدام، ومكافحة التصحر، ووقف تدهور الأراضي وعكس مساره، ووقف فقدان التنوع البيولوجي”.
مقاصد الهدف تؤكد في بعض محاورها على ضمان حفظ وترميم النظم الإيكولوجية البرية والنظم الإيكولوجية للمياه العذبة الداخلية وخدماتها، ولا سيما الغابات والأراضي الرطبة والجبال والأراضي الجافة، وضمان إستخدامها على نحو مستدام، وذلك وفقا للالتزامات بموجب الإتفاقات الدولية، بحلول عام 2020، ومكافحة التصحر، وترميم الأراضي والتربة المتدهورة، بما في ذلك الأراضي المتضررة من التصحر والجفاف والفيضانات، والسعي إلى تحقيق عالمٍ خالٍ من ظاهرة تدهور الأراضي، بحلول عام 2030.
القراءة التاريخية لعلاقة المجتمع البحريني بالأرض تشير الى حقائق الوعي المتأصل في الثقافة الزراعية للمجتمع، وثقافة الإستغلال الرشيد للأرض، وتلك الثقافة تركت أثرها الإيجابي في تعزيز ثقافة الإستدامة المرتكزة على المنفعة الرشيدة في توفير المصدر الغذائي والمعيشي للفئات الإجتماعية التي كانت تمتهن الزراعة كمصدر للحياة والبقاء، لذلك كان الفلاح يعتني بالأرض ويعمل على الإهتمام بمتطلبات بقائها واستدامة إنتاجها، ويتمثل ذلك في تقنين إستغلال الموارد المائية، ومعالجة الأرض بالاسمدة الطبيعية، وتبني نظام راحة الأرض وفق المواسم الزراعية لتحافظ على إنتاجيتها، وذلك ما ساهم في التنمية الزراعية والإنتاج الزراعي المستدام.
الثقافة الزراعية التي كانت سائدة والمرتكزة على القيم الأصيلة في عدم التفريط بالأرض الزراعية وإنتاجيتها لم تعد موجودة في مجتمع اليوم، وترك الجشع في حب المال أثره في شيوع ثقافة التدمير والتصحير والتجريف المتعمد للأراضي الزراعي وتحويلها الى غابات إسمنتية، والتسبب في القضاء على المساحات الخضرية التي كانت تتميز بها البحرين حتى سبعينيات القرن الماضي.
السؤال الإستراتيجي الذي ينبغي ان نجيب عليه، كيف يمكننا في ظل المتغيرات السلبية المشهودة ضمان إنجاز الأهداف الوطنية للتنمية المستدامة حتى عام 2030 وفق ما هو مخطط له.؟
العلاقة الرشيدة مع الأرض الزراعية ليس مبدأً مستحدثاً تطلبته الظروف العصرية، كما انه ليس وليد القرارات الدولية الحديثة، كما هو محدد في أهداف التنمية المستدامة، بل تلك ثقافة إنسانية ممتدة بتاريخ وجود الإنسان على البسيطة، والشعار الذي رفعه المجتمع الدولي “للأرض قيمة حقيقية – استثمرها” للإحتفال باليوم العالمي لمكافحة التصحر يمثل تأكيداً فعلياً على ثقافة العلاقة التي بناها الإنسان في الإدارة المستدامة للأرض الزراعية.
الثقافة الإنسانية الرشيدة في العلاقة مع الأراضي الزراعية وفق ما تشير اليه الدراسات التاريخية في الشأن البيئي إرتبطت بحياة المجتمعات القديمة التي تميزت بالوعي العميق في إستثمار الأراضي الزراعية ذلك ما يبينه الباحث العراقي الدكتور علي حنوش في كتاب “العراق .. مشكلات الحاضر وخيارات المستقبل” إذ يشير الى أنه “يعتبر ما تم التوصل اليه في ميدان الحفاظ على خصوبة الأرض وضمان إنتاجيتها، مظهرا من مظاهر تطور حماية الأرض في العهود القديمة من خلال تطبيق ما يسمى نظام بور الأرض (أو إراحة الأراضي، بزراعتها عاما وتركها في العام التالي) والذي أستخدم منذ القدم وحتى الى حقبة قصيرة من القرن الحالي في اراحة الأرض، والذي إستفادة منه الرومانيون لاحقا” ويشير “المظهر الآخر لحماية البيئة يجلى في عدد من المواد التي حملتها شريعة حمورابي، الذي كان كان يعد من أشهر ملوك السلالة البابلية التي حكمت من 1894 الى 1595 قبل الميلاد. وأهم ما إشتهرت به شريعته التي تتألف من 282 مادة، ومنها نحو سبعة مواد تخص النخيل. فقد فرضت المادة التاسعة والخمسون غرامة قدرها 225 غراماً من الفضة على كل من يقطع نخلة واحدة. ونظمت المادة الستون أصل المغارسة ما بين صاحب الأرض والمغارس أو البستاني. إذ أوضحت ضرورة قيام البستاني بغرس الأرض بالفسيلة والإعتناء بها لمدة أربع سنوات”. (1)
الثوابت التاريخية تؤكد على واقع العلاقة الإنسانية في الإستثمار الرشيد للموارد والثروات التي تكتنزه البيئات الطبيعية، ويقول الباحث علي حنوش بأنه “معلوم ان عوامل النظام البيئي واستقرارها سبقت المجتمعات البشرية وتطور أنظمتها على اليابسة. وأحد مقاييس التطور للمجتمعات الإنسانية، هو قدرتها على الاستثمار المتوازن للموارد الطبيعية من أراض ومياه وسهول وجبال ووديان ومناجم ومراع وغيرها. ويرتبط النمط الإستثماري لتلك الموارد الى حد بعيد بمستوى فهم الإنسان أو تجاهله للقوانين الطبيعية والمبادئ التي تتحكم بالتوازن البيئي أولا، وفي ألقدرة الإنتاجية لتلك الموارد الطبيعية واعادة انتاجها ثانيا”. (2)
الدلالات التاريخية تؤكد على مستوى الوعي الذي وصلت إليه المجتمعات البشرية في تنظيم العلاقة مع الموارد الطبيعية وتبنيها منهج الإدارة المستدامة مع ما تكتزه البيئات من ثروات وخيرات طبيعية، وترشيد إستثمارها لموارد الإرض بما يضمن إستدامتها وصون بقائها، والسؤال الذي يؤكد حضوره في سياق معالجتنا لواقع العلاقة مع موارد الأرض، لماذا لا تستثمر المجتمعات الحديثة تلك الثروة التاريخية في تعزيز مبادئ الإدارة المستدامة للثروات الطبيعية.؟
الإستغلال غير الرشيد للأرض، السلوك الذي حرص الخبراء الضالعين في قضايا التصحر والأمن الزراعي التحذير من أبعاده السلبية في تدهور الأراضي الزراعية، ويبين ذلك العالم المصري في العلوم الزراعية ومكافحة التصحر الراحل محمد عبد الفتاح القصاص في البحث بعنوان “الإنسان والطبيعة والتكنولوجيا ” في كتاب “فقر البيئة وبيئة الفقر” إذ يشير الى أن “أثر الإنسان على التربة يتصل بأنماط إستخدام الأرض التي تحول النظم البيئية الطبيعية إلى نظم يديرها الإنسان لإنتاج متطلباته من الغذاء والكساء وخامات الصناعة والوقود وغيرها. وكثيرا ما يزيد ضغط الإستخدام على قدرة التربة على الإحتمال أي قدرتها على الحفاظ على توازن تفاعيلاتها الطبيعية،ومن ثم تتضرر”. وفي إطار معالجة القصاص أسباب تدهور الأرض يشخص عناصر الضرر ويحصرها في “الري الزائد على طاقة الصرف وما تتبعه من بلل التربة وتملحها، وتلوث التربة بالفيض الزائد من الكيماويات الزراعية (الأسمدة والمبيدات)، والرعي الجائر الذي يحرم التربة من غطاء النبات الواقي وما يتبع ذلك من إنجراف التربة بعوانل التعرية، وتوغل العمران على أخصب الأراضي الزراعية، وعمليات تجريف التربة ليكون منها خام لصناعة الطوب”.(3).
السلوك الإنساني غير الرشيد تسبب في تدهور الأراضي الزراعية وتعقد مشكلة التصحر ودفع ذلك الواقع المجتمع الدولي تبني منظومة من السياسات والإتجاهات التي يمكن أن تساهم في تغيير الحالة والحد من تصاعد مستوى التصحر، ويعالج قضايا التصحر العالم القصاص في كتاب عالم المعرفة-242 “التصحر – تدهور الأراضي في المناطق الجافة” ويشير “مكافحة التصحر تعني منع تدهور الأراضي التي تنتج الأخشاب والأحطاب والكلأ والمحاصيل. وتعني في اللغة التي أشاعها مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية(1992)، أن تكون تنمية موارد الأرض في المناطق الجافة وشبه الجافة تنمية متواصلة (مستدامة)،أي تنمية تحقق العطاء الموصول للنظام البيئي المنتج فيقابل احتياجات الحاضر واحتياجات المستقبل”.(4).
القراءة المتمعنة للمرئيات التي يتبناها العلماء في شأن إتجاهات مكافحة التصحر، ينبغي أخذها في الإعتبار لتأكييد النوايا الدولية في تجسيد شعار اليوم العالمي للتصحر للعام 2018، وذلك يتطلب المبادرة في بناء مشروع يرتكز على إتجاهات العمل التنظيمي والإداري والقانوني والتوعية والتدريب والشراكة المجتمعية والشفافية في رصد وتعميم البيانات، وتبني الخطط العملية في وقف عماليات تجريف الأراضي الصالحة للزراعة وإعادة تأهيل الأراضي الزراعية، وتقديم المساعدات المالية للمزارعين وتحفيز انشطة العمل الزراعي والتشجير وتوسيع دائرة الغطاء النباتي والمساحة الخضراء.
الحديث في قضايا التصحر وجهود الدول في بناء مشاريع مكافحة التصحر ورؤى المختصين في معالجة هذه المشكلة ذات البعد العالمي والأمن الزراعي والبيئي للإنسانية، في تحريك سواكن العمل الدولي والإقليمي والوطني للحد من تصاعد مستويات ظاهرة التصحر، وذلك في إطار ما طرح من مرئيات في سياق معالجتنا واقع البعد الإستراتجي للشعار الذي رفعه المجتمع الدولي “للأرض قيمة حقيقية – استثمرها” للإحتفال باليوم العالمي لمكافحة التصحر، ترك أثره على مواقف بعض المتابعين لصفحتنا على الإنستغرام الذين تلقينا رسائلهم ومرئياتهم ومقترحاتهم في شأن الطرق العملية في تمكين الجهود الوطنية للحد من تصاعد مستوى حدة التصحر وتغيير المسار في مكافحة ظاهرة التصحر على المستوى الوطني.
الرؤى التي بادر عدد من المتابعين إرسالها وسجلوا فيها تقييمهم لواقع معضلة التصحر ومقترحاتهم للحل تشير الى مؤشر إيجابي في دلالات الوعي الإجتماعي البيئي، ويمكن الإشارة الى رؤى طالبة الماجستير في التنمية المستدمة مريم أحمد التي علقت بالقول “مِن ضمن المساعي التي يجب أن تتخذها الدّولة لتحقيق أهدافها في مجال استدامة الأرض وتقليل التّصحر، منع جرف الأراضي الزّراعية واستثمارها جيدًا، وأشارت هناك حاليًا أرض زراعية في منطقة (مقابة) شاسعة وجميلة، ويقال أنها أول مزرعة وصلتها الكهرباء، وفيها بئران قديمان وكان الشّباب في طفولتهم القريبة حين يحفرون حفرًا صغيرة يتدفق الماء إليهم، أرضٌ مميزة ولكنها تُجرف منذ أسبوعين، فأيّ استدامة للأرض نتحدث عنها إذا لم تضع الدولة قوانين تحمي مثل هذه الأراضي، الكلام مهما كان منمقًا وجميلًا، مؤثرًا وضروريًا، إلا أنّ التّطبيق والتّنفيذ هو الأهم وهو الطّريق الذي يعكس حقيقة ما نضعه من أهداف، وقالت ذهبت في زيارة لتلك المزرعة وكم أحزن كثيرًا لفكرة جرفها”.
إن ما جرى الإشارة اليه يمثل قيمة بيئية ويشير الى واقع تاريخي مهم في شأن البيئة الزراعية التي تتميز بها البحرين حتى مرحلة تاريخية قريبة، وذلك ما يتذكره الجيل الذي عاش في تلك المرحلة التاريخية، ومن المفارقات الجميلة عند زيارتنا مركز جابر الصباح الصحي في باربار إستمعنا الى حديث عابر للدكتورة بشرى سيد أحمد الطبيبة في المركز الصحي، أشارت في سياقه الى أن “شارع البديع كان مغطاء بالإشجار الكثيفة من مختلف الأصناف، وقالت كنت أشرح الى أبنائي بأن المركبات تسير وسط الشارع ولا تطالها أشعة الشمس لوجود الاشجار الكثيفة على جانبي الشارع”.
البحرين لم تكن تعرف ظاهرة التصحر قبل ان يجري تجريف الأراض الزراعية وتحويلها الى حدائق إسمنتية للسكن، ونرى أن معالجة هذه المشكلة في حاجة الى قوانين صارمة تمنع تجريف الأراضي الزراعية وتبني مشروع لإستزراع الشوارع والأراضي الفضاء ودعم القطاع الزراعي والمزارعين ماديا ضمن مشروع وطني يعزز بقرار سيادي يأخذ في الإعتبار توفير التمويل المادي لتمكين المشروع من تحقيق الأهداف الإستراتيجية لمكافحة التصحر وتعزيز إنجاز الاهداف الوطنية للتنمية المستدامة.
الهوامش:
- د.علي حنوش – العراق – مشكلات الحاضر والمستقبل (دراسة تحليلية عن مستويات تلوث البيئة الطبيعية والبيئة الإجتماعية) – الطبعة الأولى 2000 – دار كنوز الأدبية – بيروت – لبنان – ص- 27.
- مصدر سابق – ص – 115.
- د.محمد عبد الفتاح القصاص “الإنسان والطبيعة والتكنولوجيا ” كتاب “فقر البيئة وبيئة الفقر” الطبعة الأولى مايو 1998 – دار الأحمدي للنشر – القاهرة – تحرير دز محمد عاطف كشك – ص:35.
- د.محمد عبد الفتاح القصاص – “التصحر – تدهور الأراضي في المناطق الجافة – كتاب عالم المعرفة-242 – ص – 185.